المبحث
الأول : نشأته ودراسته
ولد محمد حافظ إبرهيم في ديروط من أعمال
مديرية أسيوط حوالي سنة 1870 إذ كان أبوه إبرهيم فهمي من المهندسين على بناء
قناطرها. ولما كان عمره سنتين توفي أبوه فقيراً في ديروط فانتقلت به أمه إلى القاهرة فكفله خاله وأدخله
(المدرسة الخيرية) فمدرسة المبتديان فالمدرسة الخديوية. ثم انتقل خاله إلى طنطا
فنقله معه. فقضى فيها بضع سنين متبطلا يزجي فرغه بالقراءة، ويدفع ملاله بالقيض.
حوالى سنة 1872. كانت سفينة (ذهبية) ترسو على شاطئ النيل.
ولم يستطع خاله لسبب ما أن يجلو عنه اليأس
وذلة اليتم, فكان لا يفتأ متبرماً بالعيش, متأففا بالناس، متجنيا علي القدر، لاينشىء
الشعر إلا في ذاك. ثم دفعته الحاجة إلى مكاتب المحامين فتبلغ بالعمل فيها حينا،
حتى أسعفته الفرص فدخل المدرسة الحربية، وخرج منها ضابطا بالجيش. ثم نقل إلى
الشرطة، ثم أعيد إلى الجيش، وأشخص إلى السودان في الحملة المصرية بقيادة كتشنر
فبقي هناك زمنا كان لا ينفك فيه متبرما متمردا، يلج في العودة إلى مصر. فلما أخفق
مسعاه ثار مع فئة من الضباط سنة 1899، فحوكم وأحيل الاستيداع, ومنه إلى المعاش.
ففي يوم منها أو قريب منها، واد لهذاه الأسرة في هذه السفينة مولود سموه ’محمد
حافظ‘ وهو شاعرنا فيما بعد، فكان ذلك إرهاصا لطيفا، وإيماء طريفا، إذ شاء القدر
ألا يولد ’شاعر ألنيل‘ إلا على صفحة النيل. كان أبوه ’إبرهيم فهمى‘ مصريا صميما،
وكانت أمه ’هانم بنت أحمد البورصه لى‘ من أسرة تركية الأصل، تسكن ’المغربلين‘ تعرف
بأسرة الصروان، إذ كان والدها أمين الصرة الحج، فلقب بالصروان (القيم على الصرة )
ولقبت الأسرة به.
وعاد حافظ كما كان يضطرب نهاره في الحياة
المبهمة، لا يستريض لعمل، ولا يستقر على أمر، ولا يتشوف إلى غاية، وإنما يضطرب
نهاره من قهوة إلى قهوة، ويتقلب ليله من مجلس
إلى مجلس، ويفيء إلى ظل الإمام
محمد عبده فينتفع بجاهه ويعيش على رفده، ويغشى مع ذلك أبهاء النعمة، يسامر أهلها
بعذب حديثه، وينادمهم برقيق شعره. وفي سنة 1911 عينه أحمد حشمت باشا وزير المعارف
يومئذ للقسم اللأدبي بدار الكتب المصرية، ثم وكيلا للدار، وظل في هذا المنصب حتي خرج
إلى التقاعد في صدر سنة 1932 وتوفي صيف السنة نفسها.
لم يعش أبو حافظ طويلا بعد ولادته، ولم
يرزق ولدا غيره؛ وقد توفى إبرهيم في ديروط وحافظ في الرابعة من عمره، فانتقلت به
والدته إلى القاهرة، ونزلت عند أخيها، فتولى أمره، وقام بتر بيته.
أدخله خاله مدرسة ’تسمى المدرسة الخيرية‘
كان مقرّها (القلعة)، وكانت تعلم فيه القراءة والكتابة وشئ من العربية وشئ من
الحساب.
ثم دخل مدرسة القربية وهى مدرسة
ابتدائية يعلم فيها ما يعلم في المكتب على نمط أرقى.
ثم تحول إلى مدرسة المبتديان، ثم صار إلى
المدرسة الخديوية، ولكن لم يطل مقامه فيها، فانتقل مع خاله ’محمد افندى نيازى‘ إلى
طنطا، وكان خاله هذا مهندس تنظيم بها.
وقد تعرف به هناك الأستاذ الشيخ عبد الوهاب
النجار وكان هذا طالبا بالمعهد الأحمدى، وذلك في شعبان سنة 1305 – أبريل سنة
1888م. وسنّ حافظ إذ ذاك نحو ستة عشر عاما. قال الأستاذ النجار : ’عند ما عدت من
القرشية إلى طنطا في شعبان من تلك السنة، رأيت إخوانى وأصدقائى يلوذون بفتى غض
الإهاب، جديد الشباب، وقد أسرعوا بتقديمى إليه وتقديمه إلىّ، باسم الأديب الشاعر
’محمد حافظ إبرهيم‘ ولم تمتر إلا عشيه أو ضحاها حتى أحسست من نفسى ميلا إليه بجاذب
من الأدب الذى كان نهمة نفسى، حتى آل ذلك إلى غرام بأدبه، وما يشتمل عليه من ظرف
ولطف محاضرة، وبديهة مطاوعة، وسرعة خاطر، وحصور نادرة.‘
(قال جافظ) وقد قضينا رمضان هذه السنة نصلى
المغرب والعشاء والترويح معا، ثم نلبت في سمو ممتع، ومطارحة للشعر، ومذا مرة في
نوادر الأدب، وما كان يطرفنى به مما يقف عليه من جيد القريض، إلى أن يأتي وقت
السحور، ثم نعود بعد السحور إلى ماكنا قيه انبثاق الفجر. فنؤدية، ثم نخرج بغلس إلى
خارج المدينة. ثم نعود وقد آذنت الشمس بالطلوع، فيذهب كل منا إلى بيته.
فهو في سنّ السادسة عشرة يربى نفسه
بالمطالعات، ويحفظ جيد البشعر، ويسمر به مع أصدقائه، ويقلده فيما يقوله هو من
الشعر، لا عمل له ولا مدرسة إلا مدرسته التى أنشأها بنفسه لنفسه، وكان فيها وحده
المعلم والمتعلم.
ثم
انتقل بعد ذلك إلى مكتب محمد أبى شادى بك بطنطا، فمكث عنده مدّه كان فيها مغتبطاكل
الاغتباط، وكان أبو شادى بك يرى نفسه قد عثر على كنز ثمين فمبنا يتنادران بالأدب،
ويتطارحان الشعر.
ثم خرج من مكتبه إلى مكتب عبد الكريم فهيم
افندى المحامى، فمكث فيه مدّة من الزمن يشتغل عنده.
المبحث
الثاني : أخلاقه
انتاب حافظا كثير من الشدائد منذ دحداثته، فقد مات والده صغيرا، ولم يورثه
ثروة. وكان بأسا في بيت خاله، ولم ينجح في المحاماة؛ وأصيب في منصبه فأحيل إلى
الاستيداع، ثم إلى المعاش في مقتبل عمره، وكانت له إلى هذا نفس شاعرة، وحس مرهف، فأثر
كل ذلك في نفسه أثرا بليغا، فهو ناقم على الدهر، ناقم على قومه، يكثر من شكوى
الناس.
ولكن أبت الطبيعة إلا أن تجد لثوران نفسه
منفذا، ولشقائه مسعدا، فمنحته القدرة الفائقة على الفكاهة الحلوة، والنادرة
المستملحة، فضحك من البؤس، من الشقاء، ومن كل شيء ؛ وكان له ذوق بارع في اختراع
النكتة من كل ما يدور حوله، فما يسمع حديثا، أو يعرض أمامه شيء، حتى يدرك موضع
الفكاهة منه فيصوغ ذلك صياغة تستخرج ضحك السامعين من أعماق صدورهم، وقرارات
قلوبهم؛ فكان في مجالسه موضع إعجابهم، ومنبع سرورهم، يرسل النكتة من بديهة حاضرة،
فتستخف الوقور، وتستهوى الرزين، فهو زينة المجلس، وبهجة النادى.
ومن العجيب مع هذا أنك قلما ترى للنوادر
والنكات في شعره مجالا، فمن قرأ شعره وحده، ولم يعرف شيئا من الأحيان تكون له
شخصيتان أو أكثر؛ فله في حياته العامة شخصية خاصة ، فاذا أراد أن يفوغ شعره أو
نثره، انصب في قالب خاص، وتقمص شخصية
أخرى؛ ولو قد أتيح له أن يدخل كثيرا من فكاهته في شعره، لربحنا من وراء ذلك الشيء
الكثير. وسبب آخر، وهو أن الناس كانوا ينظرون إلى هذه النوادر، كأنها من اللأدب
الشعبى الذي لا يصح أن يرتقى إلى الأدب الأرستقراطى، ولذلك قلّ أن يدخلوا – حتى
الآن - فكاهتم ونوادرهم في الأدب، كما
احتقروا ألف ليلة وليلة، وقصة عنترة ونحوها، ولم يعرها الأدباء الراقون اهتماما
إلا في الأيام الأخيرة؛ فكان حافظ إذا قال شعرا فى فكاهة أو مزح، عدّه من سقط
متاعه، ولم ينظر إليه عند ما ينخير شعره للنشر أو التدوين.
No comments:
Post a Comment